بريمو
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

المَنْثُورُ النَمَّام

اذهب الى الأسفل

المَنْثُورُ النَمَّام Empty المَنْثُورُ النَمَّام

مُساهمة  دمشقي و أفتخر الإثنين مايو 10, 2010 5:11 am

في قَدِيمِ الزَّمانِ، وفي منطقةٍ مُعْتَدلَةٍ من وَجْهِ الأرْضِ.. كان هُناكَ حَدِيقَةً كَبيرَةٌ؛ وفي أماكِنَ مُتَفرّقةٍ منها يَتَدَفّقُ عَدَدٌ مَنَ الينابِيع؛ ويَنْبُتُ في أنْحائِها، على امْتِدَادِها، أنواعُ الأَشْجارِ والنَّبَات. وكانت أزاهيرُها وورودُها وزَنابِقُها مِنْ أجْمَلِ النَّباتاتِ العِطْرِيّة في ذلكَ الزَّمانِ البَعيدِ...‏

وكانت الأطيارُ من كُلّ نوعٍ ولونٍ تَسْتَوطِنُ هذه الحديقة، وخاصّةً الحَمامُ الذي يجدُ الأمْنَ والغِذاءَ، والمَنظَر الجميل. وكانتْ أحْسَنَ برّيةٍ تَقْصِدُ إليها الفراشاتُ، وأنواعُ النَّحلِ، وغيرها: وتَأْلَفُ جداولَها وأشْجارَها وأزْهَارَها.‏

وكان بينَ الفَراشات والنّحل وغيرها وبينَ الأزهارِ منافعُ مُتَبادلة: فهؤلاء‏

: يأخُذون الرّحيْقَ الذي فيه مَعاشُهم وزادُهم،‏

: وهم ينقُلون رسالة الحياةِ من زهرةٍ إلى زهرةٍ، ومن وَردةٍ إلى وَرْدَة، ومن زنبقةٍ إلى أُخرى...‏

كانت الأَزْهَارُ في الحديقةِ كثيرةً...‏

وكان المَنْثُورُ أو الخِيريّ ـ كما يُسمَّى أيضاً ـ أكْثَرَ أَنواعِ الزَّهورِ انتِشاراً وأكْثَرَها ألوَاناً وأنْوَاعا...‏

ـ والمَنْثورُ نَباتٌ قويٌّ، شَدِيدُ التَّحَمُّلِ لِظُروفِ الجوِّ وتَقَلُّباتِهِ، شديدُ المُقَاوَمَةِ للحشَراتِ الضَّارَّةِ،‏

والمَنْثُور نباتٌ حلوٌ، جميلٌ، مُشْرِقٌ في مَنْظَرِهِ، بديعٌ في نَشْرِ عُطورِهِ، وهو مَتَنَوِّعُ الخَصائصِ والمَزايا...‏

ـ مِنْهُ ما يَبْقى سَنَةً واحِدَةً، ثم تَنْبُتُ بذورُه حينَ تُزْرَعُ من جَدِيد..‏

ـ ومِنْهُ ما يعيشُ طويلاً فَيُزهِرُ عاماً بَعْدَ عَام...‏

وكانت الحديقَةُ تَضُمُّ في أَرضِها الفسيحةِ من المنثورِ ما لا يوجَدُ مِثله في أيّةِ حَدِيقةٍ أُخْرى...‏

وهكَذا صارَ المَنْثُور في الحديقةِ اسماً على مُسَمّى فانْتَثر في أرجائها ولَوَّنَ أرضها الزاهية المخضرة بألوانه الكثيرة: من الأصفر والأحمر والأزرق والبنفسجي...‏

وأبْهَج بِعُطوره الذكيّة الفوّاحة المميّزة..‏

وبسَبَبِ هَذه المَزايا التي عَرَفَها المَنْثُور من نفسِهِ: من الكَثْرَةِ والتَّنَوُّع وجَمالِ المَنْظَر، وجودَةِ العِطْر: كانَ أحدُ أنْوَاعِهِ مُعْجَباً بنفسِهِ مُتَكبّراً على الزُّهور من حَوْلِه، وعَلى بَعْضِ أبْناءِ جِنْسِه...‏

أُعْجِبَ المَنْثُورُ البَنَفْسجيُّ الَّلونِ بنفسِهِ إعجاباً شديداً، فاحْتَمَلَهُ أبناءُ جِنْسِهِ، وجيْرَانُهُ أيضاً...‏

ولكنَّ الصِّفَةَ التي لم تَحْتَمِلْهَا الورودُ والزُّهورُ والزَّنَابقُ والأشْجَارُ المُزْهِرَةُ، وسائِرُ النَّباتاتِ هيَ صِفَةُ النَّميمةِ التي اختصَّ بها هذا النَّوْعُ مِن المَنْثُور...‏

كان يُحِبُّ أن يَنْثُر الكَلامَ وأَن يَحْكيَ عَنْ جِيْرانِهِ ما يعرفُهُ عنهم، ورُبّما نقَلَ الكلام من واحِدٍ إلى واحِدٍ آخَر...‏

حاولَتْ أنواعُ المَنْثُورِ الأُخْرى، كثيراً، أَن تُغَيِّرَ هذه الصِّفَةَ المذمومةَ فيه...‏

قال لـه بَعْضُهم: النِّمِيمَةُ صفةٌ سيّئةٌ من الصِّفاتِ والعادات.‏

وقال بَعْضٌ آخر: أنتَ لا تَسْتَفِيدُ مِنَ النَّميمةِ شيئاً لِنَفْسِكَ؛ وتِخْسَرُ مَحَبَّة النّاسَ لكَ وحُسْنَ رَأيِهِمْ فيك...‏

وقال فريقٌ منهم للمنثور البنفسجي: لو استمرّت عادةُ النميمة فيك لصار الآخَرونَ يَخْشَوْن صداقتك، ويخافونَ من الحديث إليك!..‏

لكنَّ المَنْثُورَ البَنَفْسَجي لم يُصْغِ إلى هذا النُّصْحِ، وذلكَ التَّنْبِيهِ الرَّقيق...‏

كانت هذه العادة القبيحة قد تَمَكَّنَتْ منه، وضَعُفَت هِمَّتُهُ عن التخلُّصِ منها...‏

والعاداتُ غيرُ الحَسَنةِ إذا تمكَّنَتْ من أحَدٍ غَيّرتْ نظرةَ الآخرينَ إليه، وأنْزَلَتْ من قيمته بَيْنَهُم...‏

وصارَ كثيرٌ من أصحابِه وجيرانِه وغيرهم يُشيرونَ إليه إشارةَ خوفٍ وتَحْذير، وهو باقٍ على عادَةِ النَميمةِ الذميمَة!..‏

اتَّفَقَتْ أنواعُ المَنْثُورِ على مُحَاسَبةِ المَنْثُورِ البَنَفْسَجيّ على عَادةِ النَّميمَةِ التي لا يَتْرُكها؛ خَشْيَةَ أن يُؤَثِّرِ تصرُّفُه الشخصيُّ هذا في سُمْعَةِ جِنْسِ المَنْثُور كُلِّهِ...‏

اختارَ كلُّ نوعٍ من أنواعِ المَنْثُورِ حكيماً من بَيْنِهم من أهْلِ الفِكْرِ والرّأي والتَّدْبير...‏

اجتمعَ هؤلاء الحُكَماء وَجَعَلُوا واحداً منهم رئيساَ عليهم، وحَدّدوا وقتْاً لِمُسَائِلَةِ المَنْثُورِ البَنَفْسَجيّ ومُحَاسَبتهِ...‏

انعقدت جَلْسَةُ الحُكَماء في الوقتِ المُحَدَّدِ؛ بعد أن استَدْعت المَنْثُورَ البَنَفْسَجيَّ وشُهوداً يَشْهدُون في القضيَّةِ يَعْرِفُونَ هذا المُنْثُورَ ويعرفونَ عاداته أيْضاً؛...‏

وكان في الشُّهودِ أنواعٌ من المَنْثورِ، والوَرْدِ، والفُلّ والنَّرْجِسِ والياسمين؛..‏

وكان فيهم أيضاً عَددٌ من الفَراشاتِ والطُّيورِ الطَّنَّانةِ...‏

وشهِدُوا جميعاً على المَنْثُورِ البَنَفْسَجيّ بأَنّهُ: يُثَرْثِرُ ويكثرُ من الكلامَ، وشهدَ بعضُهم عليه بالنّميمةِ المَذْمُومةِ...‏

وكانت الفراشاتُ التي حضَرت للشّهادةِ أكثرَ الشُّهودِ حِرْصاً على المَنْثُورِ البَنَفسَجيّ وشفقَةً عليه...‏

قالت إحداهُنَّ لرئيسِ الجلسة: نعم كانَ يَنِمُّ، لكنّهُ لم يكن يقصِدُ إلى إيذاء أَحَدٍ...‏

إنّها عادَةٌ تحكّمَتْ بهِ وسَيْطَرتْ عَلَيْه...‏

وسألَها الرئيسُ: أليستَ النّميمةُ ذَنْباً؟ قالتْ: بلى، ولكنّني أشهَدُ أيضاً بأنّهُ طيّبُ القَلْب... وإذا عوقبَ فلتكن عُقوبَتُه مُخَفّفة...‏

استأذنَ المَنْثُورُ البَنَفْسَجيُّ من رئيسِ الجَلْسةِ فأَذِنَ لـه بالكلامِ فقال...‏

يا سيّدي الرئيس: أنا أوافقُ على كلامِ الفَرَاشةِ النّبيلة؛ وأطلبُ الرأفة وتخفيف الحكم!..‏

تداول الرئيس وأعضاء الجلسة، ثم أعْلَن المُقَرَّرات: قال:‏

أوَّلاً: المنثورُ البنفسجيُّ هو من بَني جنْسِنا ولا نَطْرُدُه عَنّا.‏

ثانياً: صفة النميمة صفة قبيحة لا تليقُ بمن هو أصيلٌ كريم.‏

ثالثاً: نحكمُ على المَنْثُورِ البَنَفسَجيّ بأن يصحّح خَطأه...‏

فَرِحَ المنثورُ البَنَفسَجيُّ وفَرِحَ لـه أصحابُه وجيرانه والفراشات اللواتي يُحْبِبنَهُ... وأعلنوا فرحهم بصوت عالٍ...‏

... طلب الرئيس من الجميع السكوت والإصغاءِ إلى تتمة القرارات وقال:‏

ـ يُحْكَمُ على المَنْثُور البَنَفْسجيّ بأن يَتْرُكَ النّميمة الذّميمةَ نهائياً؛‏

ـ وأن ينثُرَ عطورُه الفوّاحَة إلى أبْعَدِ مدىً يستطيعُ أن يبعث بعطوره إليه...‏

ـ وأن يكونَ نمُّهُ بالعِطْرِ تعويضاً عن نَمِيمتِه القَديمَة...‏

ثم قال الرئيس: خُتِمَت الجلسة!‏

قَبِلَ المَنْثُورُ البَنَفْسِجيُّ بالحُكم؛ وصارَ يُخبّئ من عِطْرِ النَّهار لعطْرِ الَّليْل حَتَّى يستطيعَ أن يُوصِلَ عطورَهُ إلى أبعَدِ مدىً مُمكنٍ في هدْأَةِ الليلِ وسُكونِه... مع النسيمِ الرّقيق العَليل...‏

ومِن يَوْمِها غلبَ على المَنْثُورِ البَنَفْسَجيُّ اسمُ النّمّام...‏

أَو المَنْثُور النَّمَّام...
دمشقي و أفتخر
دمشقي و أفتخر
عضو جديد
عضو جديد

عدد المساهمات : 11
تاريخ التسجيل : 08/05/2010
العمر : 26
الموقع : دمشق

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة


 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى